تكلمت في المقال السابق عن مفهوم روح القانون أو النظام أو الحكم الشرعي وبيّنت أنه نتيجة لموانع أو دوافع إنسانية صرفه، وينظر فيه للظروف والملابسات التي إحتفّت بالواقعة.
وفي هذا المقال سأذكر قصة حدثت للزبير بن العوام رضي الله عنه مع أحد الانصار، مع تعليق مختصر بإذن الله تعالى.
عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في( راج الحرّة ) التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري ( سرِّح الماء يمُرّ بي ) فأبى عليه الزبير فاختصموا عند النبي عليه الصلاة والسلام، فقال للزبير ( إسق يازبير ثم أرسل الماء إلى جارك ) فغضب الأنصاري وقال يارسول الله ( إن كان ابن عمتك ! )
يقصد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حابى الزبير لقرابته منه.
فتلوّن وجه النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال ( إسق يازبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر )
في هذه القصة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بحكمين.
الحكم الأول
طبق فيه روح النظام حيث أمر الزبير بتسريح الماء بعد أن يسقي مباشرة دون الإنتظار، وهذا مخالف لرغبة الزبير، لأنه يريد الإحتفاظ بالماء حتى يستكمل السقي، ورغم أحقيته بذلك، غير أنه عليه الصلاة والسلام أمره بتسريح الماء مباشرة مراعاة للأنصاري وتلبية لرغبته.
الحكم الثاني
لما رأى عليه الصلاة والسلام أن الأنصاري لم يقنع بالحكم واتهم النبي صلى الله عليه وسلم بمحاباة الزبير، رغم أن الحكم كان لصالحه وراعى فيه عليه الصلاة والسلام رغبته ولبى طلبه، فهو كان يريد تسريح الماء وهذا ما تم له.
وقد ظن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنصاري سيفرح بالحكم، ولذلك تفاجأ من كلام الأنصاري وأثار غضبه فقال عليه الصلاة والسلام ( إسق يازبير ثم احبس الماء حتى يرجع الى الجدر ).
أي أنه جعل الزبير يستوفي حقه كاملاً ثم يرسل الماء للأنصاري.
ومن الأمثلة المعروفة بهذا الصدد، فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أوقف إقامة حد السرقة عام ( الرمادة ) وهي المجاعة التي حدثت بعهده رضي الله عنه، حيث نظر إلى الظروف والملابسات المصاحبة للواقعة، فالسارق هنا كان مضطراً ليحفظ حياته، وقد قال الله تبارك وتعالى ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) المائدة ٣.
وكذلك يتفق فعله رضي الله عنه مع القاعدة الشرعية ( الحدود تدرأ بالشبهات ) وهي مستمدة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
عندما نتأمل قليلاً فعل عمر رضي الله عنه نجد أنه لم ينظر للواقعة فقط،إذ لو فعل ذلك لأقام الحد فوراً
لكنه رضي الله عنه نظر لوجود ( المانع ) من إقامة الحد واستنبطه من الظروف المحتفّة بالواقعة.
وهذا تطبيق عملي لروح النظام أو القانون، فهذه الروح محركة للعدل والرحمة مما يعني بالضرورة أنها جزء من العدالة.
وتتضح روح القانون في القضايا الجنائية بشكل جلي فينظر القاضي ما إذا كانت هناك دوافع نفسية أو عقلية أو مرضية أو إنتفاء الشروط أو وجود الموانع فيبادر على إثر ذلك لوقف العقوبة أو تخفيفها.
سأتكلم في المقال القادم عن ( الرجوع عن الاقرار )
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا.
سطام قادم الشمري
مستشار شرعي وقانوني
التعليقات 6
6 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
زائر
11/22/2019 في 5:38 م[3] رابط التعليق
سطام الشمري من الاقلام الاعلامية
والثقافية الموهوبة في محافظة
الخفجي منذ سنوات عديدة فقد كان
من الاقلام البارزة منذ التسعينيات
الميلادية التي ابرزت اسم الخفجي في
صحف محلية معروفة
نتمنى من الاخوة القائمين على هذا
الصرح الاعلامي استقطاب مثل هذه
المواهب وشكرا لكم
ليلى العجلان
11/23/2019 في 9:00 م[3] رابط التعليق
بارك الله فيك ا سطام الأمر فيه سعة لعوامل عدة وهذا من رحمة الله وفضله
والعامل المهم هنا الشخص المعني بالحكم
فكر نير وقلم رائع
بانتظار مقالك القادم الرجوع عن القرار بشغف
زائر
11/24/2019 في 2:19 ص[3] رابط التعليق
كتابة التعليق
خالد الحربي
11/24/2019 في 2:31 ص[3] رابط التعليق
المعروف لايعرف أبوتركي نموذج كبير في
التضحية وتفاني وصبر ع طلاب العلم
وتحمل
المشاق الكبيرة من أجله يراه في عينه صغيره
وهي كبيرة اتمنى لك التوفيق دائم
((أبوتركي ))
وأنت هنا لست بحاجة لتعريف فمعروف
لايعرف
محبكم / خالد الحربي
اللهم استعملنا في طاعتك
12/11/2019 في 4:06 م[3] رابط التعليق
شكر الله لك وبارك فيك
جميل جدا أن ترتبط الأنظمة بالآثار النبوية وسيرة الخلفاء وقضاة السلف.
ابو سامر
01/12/2020 في 6:51 ص[3] رابط التعليق
ربط القانون والأنظمة بالسيرة النبوية هو تشريف لها وايما شرف .. من الذكاء بمكان الحديث عن القانون وروحه من خلال السرد القصصي الموثق بأحاديث صحيحة مما يجمع القاريء بين شيئين مهمين هما المتعة في القراءة وزيادة الثقافة القانونية .
تحياتي لك ابوتركي وجميع اهالي الخفجي الحبيبة .