ولد خوسيه ماريو في ضواحي العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس وعاش كسائر الأطفال من حوله يحلم في مستقبله وكيف ستكون حياته بعد عدة سنوات.
كان خوسيه ماريو مختلف عن باقي الأطفال .. ذكي، فطن، يجيد اختيار الكلمات، يعرف كيف يقدر الامور، والاهم من ذلك كان يحمل في قلبه حب لبلده الذي وِلد فيه ونشأ.
لم تكن الحياة سهلة على والدية فقد ذاقوا مرارتها كثيرا ولا زالوا، ولم تكن أفضلا حالا مع ابنهم خوسيه الذي لا يعرف ماهي الحياة بعد، ولا العقبات التي ستواجهه مستقبلاً، فكل المؤشرات تدل على مستقبل مجهول لهذا الابن، والجميع كان ينظر إليه والى والديه بشفقة ولسان حالهم يقول
" دع الأيام تفعل ما تشاءُ
وطب نفسا إذا حكم القضاءُ
ولا تجزع لحادثة الليالي
فما لحوادث الدنيا بقاءُ "
أخذ ينظر هذا الأب في حاله وحال أسرته الفقيرة التي لا تجد قوت يومها في كثير من الأحيان، وأخذ ينظر من ناحية آخرى بقسوة البشر وكيف أنهم لا يفكرون الا بأنفسهم وأن تعاونهم لا يتجاوز نظرة الشفقة! أما الأم فقد أرهقتها الدُنيا وارهقها التفكير ليس في حالها، بل بحال طفلها المسكين وحال باقي أطفالها، فالقادم مجهول والمعطيات لا تبشر بما يسر.
بلغ خوسيه السادسة من عمره وأصر والداه أن يدخل المدرسة رغم الظروف الصعبة، رأوْا فيه الأمل والمخرج الوحيد من وضعهم البائس. أما خوسيه فقد كان شديد الحماس وكان ينتظر هذه اللحظة منذ سن الرابعة فكانت المدرسة بالنسبة له أولى خطوات تحقيق حلمة الذي كان يحلم فيه. تجاوز السنه الاولى بكل تفوق وكان حديث جميع الأساتذة لذكاءة غير المعهود. في السنة الثانية وفي بداية العام الدراسي وتحديداً في حصة الرياضيات سأل مدرسها تلاميذه سؤال بسيط وهو: ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ طأطأ الجميع رأسه هربا من الإجابة الا واحد فقد كان مبتسم ويده ممتده الى الأعلى، تجاهل ذلك الاستاذ هذا الطالب وكرر سؤاله ولكن لا احد يرفع يده الا خوسيه! اخيراً سُمح له بالاجابة وكانت الإجابة صادمة وغير متوقعة. بإبتسامة عريضة يكسوها الفرح قال أريد أن أكون طيارا لكي أدافع عن بلدي وشعبه او طبيبا لأساعد أبناء وطني وأعالج الفقراء والمساكين بلا حساب وأردف قائلا لا يهم ماذا أكون المهم أن أصبح ذَا نفع للمجتمع وأفراده وأن أكون عضوا فعالا في عجلة التطور لوطني الغالي. ابتسم ذلك المدرس وقال بحزن لا تكن متفائلا فالحياة بها كثيرٌ من العقبات والمصاعب. إجابة صادمة ولكنها واقعية، وقف عندها خوسيه طويلا وتأمل بها كثيرا وقرر أن يفعل المستحيل للتغلب على كل الصعاب وأخذ هذه الكلمة على محمل الجد وجعلها القاعدة التي سيبني عليها المستقبل المجهول ..
مضت سنوات وسنوات دون أن يتغير شيء على أسرته من حيث الوضع المادي او الاجتماعي ولكن على الصعيد الشخصي فقد تغير الكثير فأصبح خوسيه ذو الثامنة عشر بعقل الثلاثين وتخرج اخيراً من الثانوية العامة بتفوق غير مسبوق وأصبح الحلم قريب المنال بأن يصبح احد اثنين اما طيارا أو طبيبا وشاءت الاقدار أن يُقبل بكلية الطب والتي كانت خيار ثانٍ بالنسبةِ له. أمضى سنوات دراسته بكل جهد فهو يدرس لهدف وليس ليقال عنه أنه طبيب، وكان ينضج أكثر فأكثر مع كل سنه من سنين دراسته وكان الطموح يزداد كل يوم.
كان خوسيه ماريو يرى أفراد مجتمعة يعيشون بمعزل عن العالم وكان يشعر أن وضعهم مختلف وأن حقوقهم تسلب لذلك كان يستشعر المسؤولية ويبذل قصارى جهده ليفتح الباب لمن خلفه وينتشلهم من واقعهم المرير الى حياة العمل والجد والاجتهاد وأن من يحاول الوصول سيصل في يوم ما ولكن يجب عليه أن يحاول وكما قال الشاعر:
ومن يتهيب صعود الجبال
يعش ابد الدهر بين الحفر
تخرج اخيراً هذا الشاب وكعادته بتفوق فاق به أقرانه ممن درسوا معه وأصبح مطلب لبعض الجهات الخارجية لمواصلة الدراسة على حسابهم الا أنه رفض كل تلك المغريات وضحى بكل تلك المنح الدراسية من أجل وطنه وشعبه فقد قدم مصلحتهم على مصلحته الشخصية. كان الحماس يسري معه كالدم في الجسد وخياله خصب جداً فقد كان يتخيل المستشفيات التي سيعمل بها ويتخيل نفسه وهو يعالج أبناء بلده وايضاً كيف سيعمل جاهدا لتطوير منظومة الطب في بلادة وكيف لأبحاثه المستقبلية أن تخدم الانسانية أجمع. كان يتخيل أن بلاده ستحتضنه بكل قوة وتضم ذراعيها عليه، ولكنه صُدم بعدم قبوله في اي مستشفى حكومي بل رفضت أيضا المستشفيات الأهلية تعيينه وكان السبب أنه ليس أرجنتينياً !! كيف لا يكون كذلك وهو ابن هذا الوطن وولد به ونشأ وترعرع في جنباته! كيف لا يكون كذلك وهو الذي أحب وطنه كثيرا ودافع عنه بكل ما أُوتي من قوة! كيف لا يكون ابن لهذا الوطن وهو الذي قضى كل لحظات حياته يتنفس حب وطنه وشعبه!! كانت قوية هي الصدمة !!
تزلزلت قدماه ووقع مغشيا عليه وهو غير مصدق ما يسمع ،، وأخذ يحدث نفسه كيف للغرباء الذين قضوا بضع سنين في بلدي أن يعيشوا ويحملوا هويته، وأنا الذي ولدت هنا ونشأت على حب هذا الوطن أن أكون غريباً في وطني ؟؟ ما ذنبي وذنب أمثالي أن نعيش بلا هوية؟
قاسية هي الحياة،، وكُثر هم أمثال خوسيه ماريو في البلدان العربية، يعيشون على ارض أوطانهم بلا هوية وتذهب حقوقهم في مهب الريح ويتم التعامل معهم كالمهاجرين غير الشرعيين بل على العكس والنقيض من ذلك يتمتع بعض المهاجرين بطريقة غير شرعية لتصحيح أوضاعهم وتوفير مقاعد الدراسة لهم وتأمين العلاج دون مقابل.
كان الله في عون خوسيه ماريو وأقرانه في كل بقعه من بقاع الارض ..
التعليقات 7
7 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
زاير
12/11/2016 في 9:12 م[3] رابط التعليق
من اجمل ماقرات
مواطن
12/13/2016 في 3:09 م[3] رابط التعليق
وصلت الرساله
زائر
12/15/2016 في 12:28 م[3] رابط التعليق
التعليق
زائر
12/15/2016 في 11:58 م[3] رابط التعليق
طيب و خوسيه ايش صار علية الحين !!
زائر
12/18/2016 في 2:21 ص[3] رابط التعليق
مقال رائع جداً
نور
04/22/2017 في 6:12 ص[3] رابط التعليق
واضحه ومقال رائع وقريتها ك قصه قبل النوم لكن شصار ع خوسيه
برضو نور
04/22/2017 في 6:14 ص[3] رابط التعليق
ع فكره حلو شكلكم وانتو تشاركوننا التتويج هههههههههههه