تشير التصورات المستقبلية لواقع النقل في المملكة إلى أن الصورة الأكثر وروداً إلى الأذهان ستشتمل على سيارات ذاتية القيادة تمضي ذهاباً وإياباً في طريق الملك عبدالله الحيوي الذي يشق العاصمة الرياض، ناقلة الموظفين وطلبة الجامعات ومشجعي كرة القدم وغيرهم كل إلى وجهة عمله ودراسته وتسليته، ومع الاستثمار الكبير للحكومة في تشييد منظومات النقل الجماعي وتطوير تقنياتها المتقدمة، باتت صورة النقل المستقبلي المرجّح أن تتشكّل ملامحها في البلاد مختلفة تماماً.
وقدم مدير قسم التنقل الذكي لدى شركة «ألستوم»، فابريك تولوز، عرضاً توضيحياً حول موضوع النقل ذاتي القيادة في مؤتمر «يو آي تي بي» للنقل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث من المتوقع أن تُحدث تقنيات القيادة الذاتية تحولات كبيرة في مجال النقل، وهذا التغيير لا يشمل السيارات التي تُعدّ من بين وسائل النقل الأقل كفاءة، وإنما يمتد تأثيره ليصل إلى شبكات الترام والمترو والقطارات، إلى جانب حافلات النقل العام، وفي ظل النمو الحضري المتسارع في المنطقة، ومع هذه التقنيات العلمية المتطورة، باتت المدن في المملكة بأمسّ الحاجة لوسائل نقل عامة أسرع وأكثر راحة وملاءمة وقدرة على استيعاب أعداد أكبر من الركاب، لكي تواصل نموها وتطورها.
ومع تقدّم تقنيات القيادة الذاتية، بدأت تكلفة الأدوات الخاصة بها مثل أجهزة الاستشعار وتقنيات الذكاء الاصطناعي بالانخفاض، في حين أن القدرة الكبيرة للمركبات المتصلة والمؤتمتة تزداد بشكل سريع، ونتيجة لذلك باتت المملكة في طليعة الدول التي سخرت الأتمتة لجعل خدمات النقل العام أكثر سرعةً وأماناً، وأقل تكلفة فضلاً عن تحويلها إلى خدمات أقل استهلاكاً للطاقة ابتداءً من شبكات المترو وقطارات الخطوط الرئيسة في الوقت الحالي وصولاً إلى حافلات النقل العام وخطوط الترام في المستقبل.
وعلى سبيل المثال، تضخّ المملكة استثمارات كبيرة في مشروعات لوسائل النقل ذاتية القيادة بجميع أنحاء البلاد، والتي تشمل مشروع مترو الرياض ذاتي القيادة، الذي يتولّى أعمال تطوير خطوطه الرابع والخامس والسادس تحالف شركات «فاست» FAST والتي تشارك به شركة ألستوم، وعلاوة على ذلك، يُنتظر أن تُشكّل وسائل النقل ذاتية القيادة جزءاً مهماً من خطط النقل الخاصة بالمدينة الذكية «نيوم»، كذلك كان النقل المؤتمت على المستوى الإقليمي موضوعاً رئيساً في مؤتمر النقل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي استضافته المؤسسة الدولية للنقل العام (يو آي تي بي).
دور شبكات المترو والقطارات وفاعليتها
ومع ازدياد النمو الحضري في المملكة لم يعد من الممكن أن يلجأ المزيد من الأشخاص إلى استقلال سياراتهم ضمن مجموعات للوصل إلى أعمالهم، إذ إن توسيع شبكة الطرق في البلاد لا يمكن أن يستمر بشكل دائم، لا سيما وأن الازدحام المروري سيفرض المزيد من التكاليف التي يتوجب على أصحاب العمل تغطيتها، فضلاً عن الدور الذي تلعبه مثل هذه الممارسات في زيادة مستويات التلوث بشكل كبير، ومع محدودية المساحات التي يمكن أن تتيحها الطرق لاستيعاب السيارات، سيكون تعزيز دور وسائل النقل على الشبكات والسكك الحديدية أمراً لا مفر منه في المنطقة، حيث يمكن لأنظمة المترو وقطارات الخطوط الرئيسة أن تنقل أكبر عدد من الناس في أوقات أقل بكثير من وسائل النقل الأخرى.
ويمكن لعملية أتمتة مسارات النقل والقطارات في المدن السعودية أن تحقق الأثر الأكبر في تعزيز فعالية هذه الوسائل وكفاءتها، إذ يمكن للمترو التطوّر بشكل كبير لتقليل الزمن الفاصل بين انطلاقتين إلى ما هو أقل من المعايير المعروفة في هذا القطاع لتصبح أقل من دقيقة ونصف، ما يتيح حركة سلسة وسهلة للقطارات ويحسّن التكاليف واستهلاك الطاقة، ويرفع عدد الرحلات.
وفي سبيل تحقيق مزيد من الأمان في مشروعات السكك الحديدية، تقوم شركة «ألستوم» إحدى أبرز الشركات العالمية في قطاع النقل والمواصلات، بتجربة مشروع «النقل البري الآمن ذاتي القيادة»، الذي من شأنه أن يقدم الدليل على نجاح نموذج أتمتة وظائف المراقبة التي يقوم بها السائق في وسائل النقل العام، وذلك بالتعاون مع الجمعية الوطنية الفرنسية للسكك الحديدية والجمعية العلمية «سيستم إكس»، ويمكن لشبكات الترام والمترو في المملكة الاستفادة من تلك المعلومات التي يمكن الحصول عليها من خلال أجهزة الاستشعار والرادارات وكاميرات المراقبة الليزرية في مساعدة أنظمة القيادة على التمييز بين إشارات الطرق والمشاة، والتعرف على الأشياء الموجودة على المسارات.
ومع التوسع المقرر في خطوط السكك الحديدية الرئيسة في المملكة، لا تزال خطوط السكك الحديدية المخصصة للشحن تشكل أهمية قصوى في طريق النمو الاقتصادي، نظراً لقدرتها على ربط المواقع الصناعية المتنوعة بالموانئ الرئيسة لتحقيق شبكة متكاملة للنقل متعدد الوسائط، ويمكن للمملكة تبادل أفضل الممارسات مع ممرّات الشحن الأوروبية الناجحة، حيث تعمل شركة تشغيل البنية التحتية الهولندية «بروريل» مع شركة روتردام للسكك الحديدية على اختبار عملية الأتمتة لتحسين إدارة التكاليف، وخفض استهلاك الطاقة وتعزيز الأمان على السكك الحديدية التي تربط ميناء روتردام، الأكبر في أوروبا، بالأراضي الألمانية.
وبالإضافة إلى الإمكانيات الكبيرة التي تتيحها الأتمتة للقطارات أثناء سفرها، فإنها تقدم إدارة مميزة لعملية مبيت القطارات وعرباتها في الأماكن المخصصة لها، حيث يمكن للمملكة، في هذا الإطار، الاستفادة من عدد من التجارب الرائدة مثل مشروع المبيت التجريبي المؤتمت للقطارات في حظائرها بضاحية فيتري سور سين الباريسية الذي تنفذه هيئة النقل ذاتي القيادة، الذي شهد تحوّل الترام إلى القيادة الذاتية وتزوّده بأجهزة لاستشعار العقبات أثناء اصطفافه في حظائر المبيت المخصصة له.
وبالرغم من أن تقنيات القيادة الذاتية باتت تستحوذ على اهتمام راسمي الاستراتيجيات في المملكة وتدفعهم لوضع تصورات مبتكرة للمدن الذكية وتجهيزها لاحتضان هذا التطور التقني، لا يمكن أن تتحول هذه التقنيات إلى واقع ملموس من دون إرساء آلية عمل نظامية مدروسة واعتماد تقنيات ناضجة وآمنة، بجانب وضع تشريعات صارمة.
ويلتقي القطاعان العام والخاص بالمملكة ضمن منظومة عمل متكاملة تضم المشغلين والجهات التشريعية ومبتكري الخدمات والمؤسسات الأكاديمية وشركات التأمين، وتعمل على تطوير القوانين والتشريعات التي يمكن أن تحوّل النقل العام ذاتي القيادة إلى واقع ملموس عبر طرق تراعي أرقى مستويات الأمان والاستدامة.
وتعمل «ألستوم»، الشركة البارزة عالمياً بمجال حلول التنقل المستدام، على تبادل أفضل الممارسات الخاصة بالنقل العام ذاتي القيادة مع الجهات المختصة بالشرق الأوسط، كما تدعم جهود الابتكار التي تقوم بها المملكة في مجال السكك الحديدية من خلال إجراء اختبارات أولية على مسارات مبيت القطارات في الخط الرابع الذي يقود تطويره تحالف «فاست» ضمن مشروع مترو الرياض، ويشتمل الخط الرابع على قطارات ذاتية القيادة، ونظام متقدم للإشارات، ومحطات تتسم بأعلى درجات السلامة والأمان، ونظام معلومات لحظي متقدّم للركاب.
ويمكن لاستخدام التقنية والأتمتة في مجال النقل، تقليص معدلات الاختناقات المرورية بشكل كبير إلى جانب توفير التكاليف والحد من التلوث، فضلاً عن زيادة سرعة عملية نقل الركاب، ودعم النمو الاقتصادي في البلاد، حيث تعمل المملكة على دعم استثماراتها في مجال المدن الذكية وتحقيق أهداف رؤيتها للعام 2030، الأمر الذي يحتّم على المؤسسات العامة والشركات الخاصة، اتخاذ الخطوات اللازمة خلال الأشهر الستة القادمة للتخطيط لمستقبل النقل المؤتمت.