يشهد قطاع البتروكيميائيات حالياً حوارات معمقة حول مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وسبل تطويرها والارتقاء بها بما يتناسب وحجم هذا القطاع الاستراتيجي لاقتصادنا الوطني، في وقت يقدر إجمالي مساهمات قطاع البتروكيميائيات السعودي في خدمة المجتمع حتى نهاية العام الماضي 2017 بما يزيد على أربعة مليارات ريال، منها نحو ثلاثة مليارات تعود لـ”سابك” وحدها، وخلال العام المنصرم قدمت سابك ما قيمته نحو 195 مليون ريال أي ما يعادل 1 % من أرباحها، ومع ذلك سجلت الشركة ممثلة للقطاع السقف الأعلى بين الشركات السعودية المدرجة في سوق الأوراق المالية.
في حين اشتدت مطالبات الخبراء والمختصين بأهمية تأسيس “صندوق للمسؤولية الاجتماعية” يخصص 50 % من موارده للمؤسسات الناشئة، و50 % للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشروط ميسرة في التمويل دعماً لنموها، في حين يقول الرأي الآخر إنه ليس من مهام الشركات دعم المؤسسات الناشئة، أو تكوين أرباح لشركات أخرى مطالبين بعدم الخلط بين مسؤوليات الشركات المجتمعية مع مسؤوليات الدعم الحكومي المفترض أن يقدم لتلك المؤسسات.
مساهمات اجتماعية متدنية
وقال عبدالله بن صالح الحقباني الأمين العام للجنة مصنعي البتروكيميائيات في مجلس الغرف السعودية إن مساهمات شركاتنا الوطنية في جانب المسؤولية الاجتماعية بشكل عام ليست بالمستوى المطلوب، لكن مجتمعاتنا حديثة عهد بهذا “المصطلح” الذي عرف في الغرب في ثمانينات القرن الماضي، وبالكاد أصبح لـ”المسؤولية الاجتماعية” صدى في الإقليم وفي منطقة الشرق الوسط منذ بداية القرن الحالي، وبالتالي فمن المتوقع ارتفاع مساهمات شركاتنا الوطنية مع مرور الوقت، ومع ارتفاع الوعي بهذه “المسؤولية” باعتبارها ممارسة أخلاقية واجبة أولاً، وورقة مرور أيضا للحصول على رضا المجتمعات وقبول أنشطتها.
ولفت الحقباني إلى أن قطاع البتروكيميائيات تأسس خلال ثمانينات القرن الماضي، ومنذ نشأتها بدأت الصناعة باستثمار الموارد المهدرة (الغاز الناجم عن استخراج النفط) في قطاع الطاقة وتعزيز كفاءة استخدامه، ما يعني أنها مسؤولة اجتماعياً “بالفطرة”، بمعنى أن كل هذه المواد التي تستخرج على هامش إنتاج النفط وتستخدم “لقيماً” في تغذية واحدة من أفضل قطاعات اقتصادنا الوطني كانت ستذهب هدراً بلا أي قيمة، في وقت ساهمت صناعة البتروكيميائيات أيضاً في خلق الوظائف للشباب وخريجي الجامعات، فضلاً عن توفير أدوات استثمارية جديدة للمتعاملين في السوق المالية ما أتاح للعديد من المستثمرين في السوق المالية فرصة تحقيق الأرباح، وتنمية الأموال، وهذا جانب يعده البعض من صميم المسؤولية الاجتماعية للشركات.
تخصيص 1 % من الأرباح غير مقنع
وشدد الحقباني بقوله “ليس من المهم، والمسؤولية الاجتماعية في طور التشكل والتكوين، النظر إلى حجم هذه المساهمات المجتمعية كمجرد أرقام، بقدر أهمية النظر إلى روح المبادرة بحد ذاتها، وإلى رغبة هذه الشركات في دعم المجتمعات والمساهمة في الارتقاء بها”، مشيراً إلى اعتقاد الكثيرين أن المساهمة في تنمية المجتمعات المحلية بما نسبته 1 % من الأرباح السنوية يتماشى مع المعايير الدولية، مؤكداً لا خلاف ولا اختلاف حول المسؤولية الاجتماعية من حيث المبدأ، لكن هناك من يرى أن هذه المسؤولية “اختيارية” تأتي بمبادرة ذاتية، فيما يرى آخرون أنها مسؤولية “واجب” الالتزام والعمل بها من قبل المنظمة أو المؤسسة.
وأشار إلى ابتكار شركات البتروكيميائيات المحلية العديد من الأنشطة الداعمة للمجتمع في مجالات التعليم، والصحة، وحماية البيئة، والمياه والزراعة المستدامة، كما اهتم القطاع بتقديم الحلول العلمية لاحتواء انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لتكون بدرجة أقل في مصانعها خلال عملية الإنتاج، أو تقليص الانبعاثات خلال دورتها الحياتية، حيث إن كل هذه الأنشطة مصدرها ذاتي وأخلاقي ولم تأتِ بإملاء من أي جهة، مستشهدا بمثال آخر لدور “البتروكيميائيات” ملفتاً لمبادرة “نساند” التي أطلقتها “سابك” في مستهل العام الجاري 2018، بهدف المساهمة في خلق جيل وطني قادر على تشغيل آلات البلاستيك عبر برنامج للتدريب (يبتدئ بالتوظيف) ويستمر لمدة عامين.
ولفت الحقباني إلى الدور الاجتماعي المهم الذي تقوم به شركات أخرى في القطاع ومنها شركات “كيمانول”، و”الفارابي”، و”التصنيع”، و”صدارة”، و”بترورابغ”، و”سبكيم”، تتمثل في دعم الجمعيات الخيرية بكافة مناطق المملكة، ويزيد أجمالي ما أنفقته هذه الشركات ضمن مسؤولياتها الاجتماعية عن مليار ريال، قد يتفق أو يختلف الناس حول علاقة دعم الجمعيات الخيرية بـ”المسؤولية الاجتماعية”، لكن يكفي هذه الشركات روح المبادرة، ويكفيها استعدادها لاستقطاع جزء من إيراداتها لصالح الإنسان الهدف الرئيس لأي خطة تنموية، وفي النهاية هذه هي رؤيتها لـ”المسؤولية الاجتماعية” كمتطلب حديث عهد في مجتمعاتنا المحلية ليس في المملكة فحسب، بل وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
قوى الضغط تنشّط المطالبات
وبين الحقباني أنه حتى وقت قريب لم يكن أحد يطالب المؤسسات والشركات بتقديم خدمات، أو دعم للمجتمعات المحلية والمساهمة في تطويرها، إلا مؤخراً فقط حينما بدأت بعض قوى الضغط تنشط مطالبة المؤسسات الوطنية بضرورة رد الجميل بتخصيص جزء من أرباحها والمشاركة في تنمية المجتمعات التي احتضنتها في مراحل الطفولة الصناعية، ورعتها حتى كبرت ونمت واشتد عودها وبلغت سن الرشد، وقد تطورت المفاهيم والنظريات حتى أصبح الالتزام بـ”المسؤولية الاجتماعية” عنواناً، ومؤشرا مهماً من مؤشرات القياس لمدى تطور الشركة أو تخلفها عن الركب العالمي.
حوارات معمقة
وفي الوقت الراهن، أصبح هناك ما يشبه الإجماع بين الخبراء بأن “المسؤولية الاجتماعية” قيمة حضارية وأخلاقية تعكس ثقافة الشركة ومدى استحقاقها لتلقي المزيد من الدعم والمؤازرة من قبل المجتمع في أداء أعمالها، في حين يشهد قطاع البتروكيميائيات حالياً حوارات معمقة حول مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وسبل تطويرها والارتقاء بها بما يتناسب وحجم هذا القطاع الاستراتيجي لاقتصادنا الوطني.
وفيما يقترح البعض تأسيس صندوق للمسؤولية الاجتماعية يخصص 50 % من موارده للشركات الناشئة، و50 % للشركات الصغيرة والمتوسطة بشروط ميسرة في التمويل دعماً لنموها، يقول الرأي الآخر إنه ليس من مهام الشركات دعم المؤسسات الناشئة، أو تكوين أرباح لشركات أخرى. تقوم فكرة تمويل الشركات الناشئة، على فرضية أن الشركات المدرجة في سوق المال تنمو بحصولهاعلى السيولة من خلال بيع الأسهم، وهذا لا يتوفر للشركات غير المدرجة (الناشئة)، التي من بين أسباب تعثرها صعوبة الحصول على السيولة وهي العنصر المهم للنمو.
المشاركة المجتمعية للتسويق والسمعة
وهناك نظرية المشاركة المجتمعية التي ترى أن الشركات الكبيرة يهمها المشاركة المجتمعية للتسويق والسمعة، وهما أولى لها من دعم الشركات الصغيرة أو الناشئة، ومن بين المقترحات هنا تخصيص 20 % من موارد الصندوق (صندوق المسؤولية الاجتماعية) لبناء مدارس ومستشفيات وغيرها، و80 % للشركات الناشئة يتم توزيعها بالتساوي 40 % للمؤسسات الصغيرة، و40 % للمتوسطة، فنمو الشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة سيؤدي حتما إلى خلق وظائف وخدمات وسلع للمجتمع بأسعار معقولة وجودة مقبولة، كما سيفيد الشركات الكبيرة بالحصول على منتجات وخدمات لمشترياتها بميزة تفضيلية، وهنا الصورة تتضح بشكل شمولي ويتحقق أحد مبادئ الجودة العشرة رابح – رابح لأن الكل رابح في هذه المعادلة.
وهناك رأي ثالث ينوه بوجود خلط في المفاهيم بين مسؤولية الدولة ومسؤولية الشركات في التنمية، فالشركات الكبيرة والبنوك وفقاً لهذه النظرية ليس من مهامها تطوير وتنمية الشركات المتوسطة والصغيرة (SMEs) بل هي مسؤولية الدولة تطوير هذا المحرك العظيم للاقتصاد.
ويستمر الحوار لبلوغ أفضل شكل من أشكال المسؤولية الاجتماعية لقطاع البتروكيميائيات، وفقاً لأفضل المعايير العالمية، ولا يتوقف دعم شركات البتروكيميائيات للمجتمعات من حولها، فالقطاع يظل من بين أكبر المساهمين محلياً في دعم المجتمع، إلى جانب جاهزيته للقيام بدور أكبر يتمثل في دعم الاقتصاد، وتعزيز قدرته التنافسية إقليميا وعالمياً، فضلاً عن رفده بمصادر إضافية تمكنه من تنويع مصادر الدخل، وليس من الظن أن يجادل أحد في أن ذلك سيكون أعظم خدمة للمجتمع في حال تحققه.