يتعلم الإنسان في حياته المبكرة كثيرا من العادات أو المهارات من خلال الانتباه وممارسة بعض ما يشاهده أو يقرأه، وقد يتأخر التعلم أو أنه يمتنع عن البعض لأسباب متعددة!
خلق الله – سبحانه وتعالى – للإنسان لسانا واحدا، وجعل له أذنين اثنتين؛ ليستمع أكثر مما يتحدث، ولقد علمنا القرآن الكريم حسن الاستماع والإنصات، فقد جاء في قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)، وفي الحديث الشريف عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا»، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه كثير من التوجيهات.
نصادف في مجالسنا من عطَّل أذنيه كلتيهما، وصمَّهما عن الاستماع، وأطلق لسانه يقاطع به هذا بطريقة فجة، ويعارض به ذلك بأسلوب لا يوصف صاحبه بدماثة الخلق، وينتقد به الآخر دون تروٍ، ويتذمر باستمرار دون مراعاة لآداب حديث أو إعطاء حق لآخر بالتعبير عن رأيه!
وينتظر معظم المتحدثين فرصتهم في الكلام في كثير من المجالس أو الحوارات؛ لأن فئة في حقيقة الأمر لا تستمع للمتحدث بل تنتظر الفرصة لاقتناص الوقت للحديث؛ ليعبروا عن رأيهم بل قد يكمل بعضهم عبارات المتحدث أو يقول كلمات يشعره فيها بضرورة قطع حديثه – بطريقة غير مباشرة – مثل: «نعم .. نعم» أو «أعرف ذلك جيدا» بل قد يكون من بينهم من هو أكثر فجاجة، وأقل صبرا على الانتظار، فيحثُّ المتكلم مباشرة وبصراحة تامة على الإسراع بالحديث؛ كي يأخذ دوره غير المشروع فيه!
تبدو بعض الحوارات والمجالس – في بعض الأحيان – حلقات للشد والجذب، بل قد يتحول الحوار فيها إلى صراخ وصخب، وتتداخل فيه الأصوات حتى لا يكاد السامع يميز شيئا منها، وغالبا ما يدفع ذلك إلى توجيه النقد الشديد للآراء الأخرى أو المبالغة في ردود أفعال سيئة تجاه أصحابها أو إساءة فهمهم أو إرجاع الأمور إلى دوافع خاطئة أو تكوين آراء وصور ذهنية مبنية على سوء الظن؛ لأنها لا تستند إلى حقيقة أو مبدأ حيث كان أساسها الذي قامت عليه خاطئا! فكم واحد انتظر دوره المشروع في الكلام، ولم يحصل عليه؟ وكم واحد قطع أحد الجالسين حديثه، فسكت مستغربا ومستاء؟
إن التعدي على الآخرين والتجاوز على حقوقهم، وعدم المبالاة في الالتزام بآداب الحديث، والتقيد بسلوكيات الحوار الهادئ صفات سيئة وعادات ذميمة يجب على من وقع فيها أن يراجع نفسه، ويعدِّل من طريقته؛ لأنه يحتاج وبشكل سريع إلى عمليات عاجلة؛ لتحديث برمجته بشكل كامل بلغة التقنية!
يخرج البعض من كثير من اللقاءات والحوارات بأعباء نفسية ضاغطة؛ لأنه لم يعد قادرا فيها على الاستماع أو الحديث؛ بسبب الممارسات المزعجة، والسلوكيات الخاطئة كأن يتعرض لمقاطعة غير مبررة قبل أن ينتهي من كلامه، ولا يمكن وصف كثير من تلك الحوارات التي تغلب عليها هذه الطريقة إلا بضعف قدرات الاستماع لدى بعض المتحاورين، وهذا الضعف البارز يفقدها هدفها الرائع كونها متعة أو تعلما، فيخرج من اضطره الحياء للجلوس في مثل هذا الجو المشحون بالفوضى متضايقا، بل ونادما على وقته المهدر.
قد يجد البعض ممن اعتاد حسن الإنصات اندهاشا من بعض محدثيه عندما يعطيه الفرصة لإكمال حديثه، وقد يزداد استغرابه وتكبر دهشته عندما يجد إقبالا من مُجالسه قبل أن يبدأ بالحديث، ويلقى منه حسن إنصات عندما يبدأ حديثه، وسرعان ما يجد في نفسه إعجابا شديدا به، ويلاحظ أنه قد بدأ يتأثر تدريجيا بطريقته في الاستماع، ويحاول محاكاته في حسن الإنصات، ويبدأ شيء من التقارب والاحترام المتبادل الواضح بينهما في النمو، ويصبح للحوار فائدة بسبب التزامهما بالطريقة المثلى للحوار.
لقد زاد عدد القنوات الفضائية في عالمنا العربي على 700 قناة، وفي بعضها برامج حوارية يفتقد أغلبها لأبسط آداب الحوار، وقد أساءت بعبثية شديدة إلى هذا الفضاء المترامي، بل إن بعضها قد تجاوزت إساءته حدود القناة، وساهمت في فقدان كثيرين أساليبَ الحوار السليم!
وقفة: كان أهل البادية – على ما عندهم من أمية وبعد عن المدنية والتحضر – يلتزمون بتقاليد وأعراف حوارية ممتازة في مجالسهم، فلا يتحدث شخصان في وقت واحد، وإذا ما حدثت مقاطعة أحجم المتحدث عن مواصلة كلامه؛ لإيصال رسالة للآخر بأنه قد تجاوز آداب المجلس وأعرافه!
عبدالله مهدي الشمري