ابعاد الخفجى-سياسة:تاريخ العراق العدائي تجاه دول الجوار في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين جعل عدة قوى إقليمية ودولية – بما في ذلك الولايات المتحدة ودول الخليج وإيران – مهتمة باحتواء قدرة هذا البلد على بناء مؤسسة عسكرية قوية يمكن أن تهدد السلم الإقليمي. لكن مؤسسة “تشاتهام هاوس” البريطانية للأبحاث في تقرير نشرته مؤخرا قالت إن قلق دول الجوار الآن، بعد عشر سنوات من الغزو والاحتلال، يتمركز حول ضعف العراق بحيث تحول إلى ما يشبه وكيل لإيران، وعلى الممارسات غير المتوقعة من اللاعبين غير الحكوميين الأقوياء داخل العراق. وفيما تهدد الأزمة السورية بزعزعة استقرار العراق بشكل أكبر، هناك مخاوف حقيقية من انهيار الدولة العراقية.
إن غياب العراق كلاعب في السياسة الخارجية وضع شاذ تاريخيا. مثل مصر وسورية، كان العراق دائما إحدى الدول صاحبة النفوذ القوي في العالم العربي، وهو لذلك دولة يريد الآخرون أن يؤثروا فيها. غزو العراق واحتلاله في 2003 أضعفه وجعله عرضة للتدخلات الخارجية، مما سمح لقوى خارجية بتشكيل تحالفات قوية مع أطراف داخلية مختلفة على أساس مصالح كل قوة في المنطقة. هذا البناء للتحالفات الفئوية المختلفة يعزز العيوب الهيكلية في مؤسسات الدولة الداخلية ويعقد الجهود المبذولة لتطوير إجماع حول السياسة الخارجية. وجهات النظر حول ما يجري في العراق مختلفة. بالنسبة للذين يعتقدون أن العراق يمر بمرحلة انتقالية نحو الديموقراطية، فإن الحراك الإقليمي الرئيسي يكمن في محاولة القوى الإقليمية الأخرى منع هذه التجربة الديموقراطية لحماية نماذج الحكومات الاستبدادية التي لدى كثير من هذه الدول. ومع ذلك فإن مؤيدي الحكومة العراقية القلقون من أن سقوط نظام بشار الأسد سيقوي القوى داخل وخارج العراق المعادية للحكومة العراقية وحتى للدولة العراقية. من ناحية أخرى، بالنسبة لمنتقدي الحكومة العراقية الحالية، فإن حكومة نوري المالكي تبعد جيران العراق من السنة بسبب تهميش السنة العراقيين وتبني السياسة الإيرانية.
هذا التعقيد في مشهد السياسة الخارجية يتضاعف ببروز إضفاء الطابع القانوني على حكومة كردستان الإقليمية وتطبيقها سياسة خارجية مستقلة تكون أحيانا متناقضة مع سياسة الحكومة المركزية في بغداد. وقد قامت حكومة كردستان بالتفاوض على عقود تتعلق بالنفط والغاز مع شركات دولية، وتوسطت بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، وتدخلت في شؤون الأحزاب الكردية السورية.
بحثا عن طريق ثالث
النظرة المستقبلية للصراع في سورية تبين أن الخلافات الداخلية العراقية حول تحالفاتها الإقليمية سوف تزداد سوءا. لكن هناك طريقا ثالثا للعراق: موقع عدم انحياز وعدم تدخل في إقليم تزداد فيه الصراعات. سورية أكثر قضية في السياسة الخارجية تنقسم حولها المواقف والآراء. لكن هذه الفئات المختلفة تشترك في مصالح محددة، وفوق كل شيء الحاجة لحماية بلدهم ضد انتشار العنف من سورية. بحسب تقديرات الأمم المتحدة، قتل أكثر من 1,000 عراقي في العنف السياسي في مايو 2013، وهناك خطر لتجدد الحرب الأهلية في العراق. ولكن عوضا عن القيام بجهود منسقة للوصول إلى حل سياسي لأزمة هامة لمستقبل البلد، يبدو أن الحكومة والمعارضة مصممتان على اتباع مقاربة تعتمد على ردة الفعل، حتى مع قيام جماعات عراقية غير حكومية بالتورط مع كلا الجانبين في الصراع في سورية.
لكن هناك نهجا أكثر نضوجا يبدو أنه ساد العلاقة المتجددة بين العراق والكويت، والتي تتمثل بتطور التجارة وإعادة الرحلات الجوية بعد عقدين، ومطالبة الكويت للأمم المتحدة بإخراج العراق من بند الفصل السابع. هذه الخطوات بدأت تشفي التاريخ المؤلم بين هذين البلدين.
يمكن أيضا بناء إجماع حول علاقات العراق مع القوى الناشئة، خاصة تلك التي تستورد النفط من الدول الآسيوية، والتي أصبحت بشكل متزايد أسواق التصدير العراقي الرئيسية، ومع الدول العربية الانتقالية، التي تجرب بنفسها الحكومات المنتخبة ولا مصلحة لها بإفساد التجربة الديموقراطية العراقية.
ويسعى العراق لتنويع تحالفاته الخارجية ومصادر السلاح بعيدا عن الولايات المتحدة. على عكس الولايات المتحدة، تؤكد دول آسيا، خاصة الصين والهند، على نهج حيادي للعلاقات الإقليمية التي يمكن أن تتوافق مع طموحات العراق بلعب دور أكثر حيادية. لكن اللاعبين السياسيين العراقيين لا يزالون يستخدمون العلاقات الخارجية للبلد بشكل رئيسي كوسيلة لكسب النفوذ داخل الدولة، عوضا عن تأكيد مصالح البلد في الإقليم. كل من الصراع في سورية والعنف السياسي في العراق تتم صياغتهما بشكل جزئي بإرث الحكومات الاستبدادية التي اعتمدت بشكل كبير على المضايقات رفضت السماح بمساحة من أجل معارضة فعالة لتطويرها بشكل سلمي. إرث الأنظمة الدكتاتورية والاستعمار في المنطقة ساهم أيضا في نشر الإحساس بأن القرارات يتم اتخاذها في مكان آخر.
مخاطر الإهمال
صنع السياسة الخارجية يعاني عادة من الفترات القصيرة خلال فترات الأزمة. لكن من المهم للحكومات الغربية أن تتذكر أن مشاكل العراق الحالية تشكلت بشكل كبير بسبب الغزو والاحتلال، وبسبب النظام الدكتاتوري السابق لصدام حسين الذي دعمته الأنظمة الغربية في فترة من الفترات ليقف في وجه إيران. التاريخ الحديث للعراق واحد من عدة أمثلة تكذب افتراض أن الأنظمة القمعية تجلب معها الاستقرار، لكنها عوضا عن ذلك تخلق مظهرا سطحيا يختبئ خلفها الرفض وعدم الرضا. الدول الغربية الرئيسية، وخاصة أميركا وبريطانيا، تظهر حاليا تعبا من العراق بسبب سياسة هذه الدول الداخلية إلى حد كبير. نتيجة لذلك، يتم تصوير الغزو الأجنبي للعراق في 2003 على أنه خطأ الإدارة الأميركية السابقة، مع وعود مبالغ بها تم طرحها حول الغزو لم يتحقق معظمها. التواصل مع العراق ليس سياسة خارجية محبوبة. لكن من الأساسي أن تبقى الدول الغربية على تواصل مع العراق، بالدرجة الأولى لحماية حدود البلد ووحدة أراضيه ضد خطر انتشار الصراع من سورية. إن صراعا أهليا جديدا في العراق سيعرض الأهداف والمصالح الغربية في هذا البلد للخطر ويزيد من إرث الغرب بالفشل هناك. لذلك تحتاج الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الأوروبية الرئيسية الأخرى إلى إعادة التركيز على العراق. عليها أيضا أن تقنع دول المنطقة بعدم اعتماد الطائفية كسلاح سياسي.