بدأت التغيرات والتفاعلات السياسية الملاحقة لأزمة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي تؤتي ثمارها على المشهد السياسي كي ترفع أقطاب مؤثرة في النخبة السياسية العراقية – التي تصدرت الحياة السياسية بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 – شعار العراق أولاً. وفي ذلك الصدد، كان للتطورات الداخلية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والتطورات الإقليمية في أكثر من ملف سياسي وأمني دورها في إضفاء الزخم على خطاب (العراق أولاً) أو الشروع في تطوير خطاب غير مباشر يرفع شعار الخروج من القبضة الإيرانية.

كانت أولى التفاعلات التي وقعت في الأعوام الثلاثة الماضية من نصيب أسلوب المحاصصة السياسية في شكله المعتمد بعد الغزو الأميركي والذي أدى إلى زيادة المسافة بين مطالب الشارع العراقي (بمختلف انتماءاته المذهبية) وبين أجندة النخبة العراقية، كي يظهر العامل الشعبي كمحدد قوي يهدد المعادلة السياسية التي فرضها العامل الدولي في فترة ما بعد 2003. حيث أدت تلك المسافة إلى تحرك المرجعية الدينية في النجف العراقية للمطالبة بإقامة دولة مدنية مستقلة ولم تتردد في توجيه انتقاد للموقف الإيراني استجابة لمطالب الشارع العراقي الذي ضاق ذرعاً من الأحزاب السياسية بشكلها الحالي، وفرض عليها أن تستجيب بشكل ما مع مطالب الشارع. فقد أعلن السيد عمار الحكيم خروجه من المجلس الأعلى الإسلامي وتأسيسه لتيار بيت الحكمة، وأعلن السيد مقتدى الصدر عدم ممانعته التحالف سياسياً مع رئيس الوزراء حيدر العبادي والحكيم، وشرع رئيس الوزراء سليم الجبوري بالخروج من حزب الإصلاح (المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين) وتأسيسه لحزب التجمع المدني للإصلاح.

كما كان للتطورات في المشهد الكردي عراقياً تأثيراته على التغييرات الحالية في الحياة السياسية العراقية في ظل تمسك الحزب الديمقراطي الكردستاني بإجراء استفتاء الانفصال في سبتمبر، حيث يؤثر وقوع هذا الاستفتاء على مجريات المشهد العراقي بأكمله وعلى شعبية وخيارات النخبة العراقية إذا ما طالبت جماهيرها بالانفصال على غرار أربيل. فقد يكون لذلك التطور ارتدادات على باقي مكونات المجتمع العراقي التي قد تهدد بالمطالبة بالاستقلال في حال نشوب أي خلاف بينها وبين الدولة العراقية أو قد تسعى للاستقواء بأطراف غربية ما زالت تقتنع بسيناريو الفوضى الخلاقة أو سيناريو إعادة إنتاج حروب ما قبل معاهدة وستفاليا 1648 في المنطقة العربية كي يعقبها ظهور الدولة المدنية الحديثة على النموذج الأوروبي.

وعلى المستوى الإقليمي، يلعب التوجه الحالي لمحاربة تنظيم داعش وفكر “الإسلام السياسي” المتطرف والدول التي تدعمه في إعادة تموضع العراق على أجندة الدول الإقليمية النشطة في تحقيق تلك الأهداف باعتبار أن الهدف الأول أمام الحكومة العراقية هو تحرير العراق من تنظيم داعش وباعتبار أن الساحة السياسية العراقية تشهد تدخلات من دول إقليمية راعية وداعمة للإرهاب. فقد أوجد التوجه الإقليمي المناهض للدور الإيراني وتحول الدور الأميركي من سياسة (مقايضة ترتيبات الوضع الداخلي في العراق مقابل الحفاظ على الاتفاق النووي مع طهران) إلى سياسة (عدم التهاون مع السلوك الإيراني ووقف صعود نفوذ طهران في المنطقة العربية) فرصة مهمة أمام الحكومة العراقية والنخبة السياسية كي تعمل على ترتيب أوضاعها الداخلية للاستفادة من الوضع الإقليمي الجديد في تحقيق أهدافها المتعلقة بخطاب (العراق أولاً) والخروج من القبضة الإيرانية والحصول على الدعم اللازم في محاربة تنظيم داعش وإعادة بناء المناطق المحررة.

على الجانب الآخر، لم تتأخر الدول العربية المعتدلة في التجاوب مع التغييرات السياسية في بغداد انطلاقاً من محددات مشتركة بين سياسات الدول العربية الكبرى كالمملكة العربية السعودية ومصر تقوم على إحياء الاصطفاف العربي الاعتدالي في المرحلة المقبلة في مواجهة القوى الإقليمية غير العربية، ومن أجل حماية المصالح العربية في ترتيبات المشهد الإقليمي في مرحلة ما بعد تنظيم داعش. فقد سعت الرياض والقاهرة لاتخاذ خطوات لتشجيع وتسريع التغيرات الحالية في بغداد كي تشجع النخبة السياسية العراقية على ترجمة خطاباتها المستحدثة إلى سياسات وبرامج سياسية واقعية تضمن للعراق استقلاليته وإعادة الاعتبار له كالجبهة الشرقية للمنطقة العربية.

وقد ظهر السعي السعودي في ذلك الصدد منذ إعادة فتح السفارة السعودية في بغداد وفتح قنصلية سعودية في أربيل حتى مناقشة فتح كافة المعابر البرية بين المملكة والعراق وإحياء العلاقات التجارية بين البلدين والاستقبال المستمر لنائب خادم الحرمين الشريفين الأمير محمد بن سلمان لمختلف الرموز السياسية والدينية العراقية والوزراء العراقيين مروراً بالمساعدات الإنسانية السعودية في المناطق المحررة من تنظيم داعش والدور السعودي المنتظر في إعادة بناء تلك المناطق.

على الصعيد الثاني، يستمر مسار العلاقات المصرية – العراقية في الصعود بالتوازي مع مسار العلاقات السعودية – العراقية حيث تهتم القاهرة بدعم الدولة العراقية ومؤسساتها الأمنية عبر رفع مستوى التعاون الأمني بين البلدين والتدريبات العسكرية المشتركة، وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع بغداد عبر الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، والتواصل السياسي المستمر بين القاهرة وبغداد كان آخرها في زيارة السيد عمار الحكيم إلى القاهرة في أبريل 2017 وزيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري الأخيرة للعراق في يوليو 2017.

أخيراً وليس أخراً من المبكر التصريح بأن التغيرات السياسية في بغداد قد أوجزت الوصول إلى هدفها، فما زالت الحكومة العراقية مقيدة بمراكز قوة في الداخل العراقي تعرقل حركتها، كما أن النخبة السياسية تحتاج إلى صياغة خطاباتها الجديدة في شكل برامج وسياسات وليس في شكل تكتيكات تفادي التصادم مع تطورات المستويين الشعبي العراقي والإقليمي الشرق الأوسطي. لكن ينبغي الإشارة إلى أن الاصطفاف العربي الاعتدالي يتجاوب بشكل إيجابي عبر الخطاب والسلوك مع التغييرات الحالية في بغداد أملاً في تحويلها إلى واقع سياسي جديد يصب في صالح الموقف الإقليمي العربي.