على الرغم من تراجع اقتصادات دول كبرى جراء الدورة الاقتصادية الحالية، إلا أن الاقتصاد السعودي قاوم وبشراسة تبعات المرحلة الاقتصادية، متسلحاً بالإصلاحات الاقتصادية الكبرى التي أطلقتها بعيد إعلان رؤية 2030، مما دعم موقف أحد أكبر اقتصادات المنطقة، والاقتصاد العربي الوحيد بين نادي العشرين، وجعله يبقى نابضاً وحيوياً بالرغم من كل تبعات الدورة الاقتصادية السلبية التي هبت على المنطقة قبل عامين ونيف.
فقد أدت سياسة الصرف بكفاءة، وضبط إدارة المال في البلاد إلى توازن كبير، حتى بات العجز في الميزانية يتراجع بشكل متلاحق، وأعلنت المشاريع الكبرى في مختلف البلاد، ضمن رؤية جادة لاستغلال مكامن القوة في الاقتصاد السعودي الزاخر بفرص كبيرة في مجالات لم تستغل من قبل بشكل يمكنها من تعزيز مكانة المملكة الاقتصادية على أصعدة شتى.
وقد مثل إعلان المملكة ميزانية ربع سنوية شاهداً على الشفافية التي يدار بها الاقتصاد السعودي، كما ترك تراجع العجز في الميزانية في الصنف الأول من العام الحالي، وارتفاع الاحتياطي النقدي إلى 493.3 مليار دولار في يونيو الماضي، أثراً ايجابياً على تفاؤل الأعمال في المملكة، وعزز الثقة في الاقتصاد السعودي وفي الآلية التي يدار بها.
نجاح
د. محمد بن دليم القحطاني -إدارة الأعمال الدولية بجامعة الملك فيصل- أكد أن السياسة التي يدار بها اقتصاد المملكة، قد جعلت منه اقتصاداً قوياً في مرحلة صعبة وظروف اقتصادية عالمية متداعية، وأشار إلى أن الأعوام 2016، 2017، وربما 2018 هي أعوام حرجة وصعبة على الاقتصاد، مشدداً على أنها شهدت إطلاق مشاريع عملاقة في المملكة رغم كل ذلك، وقال: إن القيادة الإدارية والعمل الإداري الذي أدير به الاقتصاد السعودي خلال هذه السنوات الحرجة، كانت إدارة ناجحة، وقادرة على صنع النجاح في عمق الأزمة الاقتصادية، مما يبرهن على أن المملكة تسير في الاتجاه الصحيح.
وأضاف: إن الإصلاحات الاقتصادية التي شهدتها المملكة، والشفافية التي يتم من خلالها الإعلان بشكل ربع سنوي عن سير الاقتصاد الوطني وأدائه، قد مكنت الاقتصاد الوطني من أن يصبح محط أنظار الإعلام الاقتصادي العالمي، وأن يتحلى ببريقه رغم صعوبة الظروف الاقتصادية، فقد دأبت المملكة على إخراج الكنوز التي يدخرها، ويتمتع بها الاقتصاد السعودي من خلال الإعلان عن مشاريع عملاقة ومتلاحقة، كمشروع البحر الأحمر، ومشروع القدية الترفيهي، وغيرها من المشاريع التي توحي بأن الاقتصاد الوطني يسير في الطريق الصحيح.
وقال القحطاني: إن أهم الأسلحة التي تسلح بها الاقتصاد السعودي في مواجهة الدورة الاقتصادية الحالية كانت مسألة الشفافية والإفصاح، وكذلك الحوكمة، والرقابة الإصلاح والمحاسبة، مما جعل القائمون على إدارة الاقتصاد يصلون به إلى أعلى مستويات كفاءة الانفاق، ولعل أهم مؤشرات الإفصاح إعلان ميزانية ربع سنوية بكل شفافية ومصداقية، مما يعزز الثقة في الاقتصاد الوطني، وما يعني الجهات الرقابية على إطلاع بكل تفاصيل الميزانية وآليات الصرف وإدارة الدين بشكل يجعل الاقتصاد يمضي قدماً من نجاح إلى آخر بإذن الله.
أرقام
وأكدت الدكتورة نوف بنت عبدالعزيز الغامدي -الرئيس التنفيذي لمركز استدامة للدراسات- أن كل المؤشرات تدل على تحسن قادم في الاقتصاد السعودي، مؤكدة على أن كل ما يحدث الآن نتائج صحية للمرحلة الانتقالية الحالية.
وأضافت: لقد ارتفع الاحتياطي النقدي السعودي إلى 493.3 مليار دولار في يونيو الماضي، للمرة الأولى خلال عام كامل، مقابل 491.7 مليار دولار في مايو الماضي، كما أنّ تراجع الضغوط على السيولة يعد العامل الأساسي في ارتفاع الاحتياطي، ومازالت عجلة الإصلاح الاقتصادي في المملكة منذ الإعلان عن رؤية 2030، بكل ما جاء فيها من تفاصيل لوقف إدمان الاقتصاد على النفط مستمرة، كما أن القرار بإعادة البدلات بأثر رجعي انعكس أثره على أربعة قطاعات؛ تجارة التجزئة، والترفيه، والفنادق والمطاعم، إلى جانب قطاع المصارف. وكانت له آثاره الإيجابية على قطاعات تجارة التجزئة، والترفيه، والمطاعم، وساعد هذه القطاعات من تحسين أدائها في الربع الثالث من العام الجاري، خصوصاً قطاع التجزئة الذي ظل يعاني في الآونة الأخيرة من ركود السوق، وكساد بعض المتاجر؛ الأمر الذي أثر بشكل مباشر على التضخم، إلا أن القرار سيعمل على إخراج معدل التضخم من النطاق السالب، والتأثير الاقتصادي على إعادة البدلات لن يقتصر على موظفي القطاع الحكومي بل ستكون له آثاره المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد السعودي بشكل عام، مع تجاوز حجم البدلات التي ستدفع لموظفي القطاع الحكومي الـ40 مليار ريال، بعدما خصمت لمدة سبعة أشهر.
وقالت: لقد أثبتت السعودية وعبر مكتب إدارة الدين العام التابع لوزارة المالية، ثقة المستثمرين من حول العالم باقتصاد المملكة والتي نجحت في الأشهر الأخيرة بتحقيق أكبر إصدار من السندات تشهده الدول الناشئة في العالم عند 17.5 مليار دولار، وأكبر إصدار من الصكوك تاريخياً عند تسعة مليارات دولار، وهناك مؤشرات اقتصادية أخرى تحسنت خلال هذه الفترة، من بينها إجمالي القروض المقدمة للقطاع الخاص إلى ودائع البنوك والذي يعتبر مقياساً لسيولتها تجاوز تسعين في المئة في أغسطس الماضي (91 %) ولكنه عاد لمستويات 88% في فبراير، أيضا تراجع معدل فائدة السايبور والذي يقيس كلفة الاقتراض بين البنوك من مستويات شبه قياسية عند 2.386 في المئة في 17 من أكتوبر إلى 1.726 % في الـ20. ومن المتوقع أن يتحسن نمو الاقتصاد السعودي ليبلغ 1.6 في المئة خلال العام الجاري، فيما كان 1.4 في المئة العام الماضي 2016.
وأضافت: من المتوقع تحسن الاقتصاد السعودي خلال العامين القادمين 2018 وَ 2019، ليصبح النمو 2.5 في المئة في 2018، و2.6 في المئة في العامين على التوالي بناءّ على الزيادة المتوقعة في أسعار النفط، وتحقيق هذا الهدف يمكن السعودية من أن تسبق خمسة اقتصادات كبرى هي: المكسيك وإندونيسيا وهولندا وتركيا وسويسرا، في حال بقاء الترتيب الحالي للناتج المحلي لدول العالم كما هو في الأعوام الماضية، والسعودية تسبق حاليا بعض الاقتصادات الكبرى من حيث الناتج المحلي، ومتى تحققت أهداف الرؤية فسيبقى الناتج المحلي السعودي أعلى من نظيره في هذه الدول، وهي على سبيل المثال لا الحصر: الأرجنتين، بلجيكا، تايلاند، النرويج، النمسا، جنوب إفريقيا، هونج كونج، ماليزيا، الدنمارك، وسنغافورة. وبحسب الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم في عام 2015، تحتل السعودية الترتيب الـ 20 عالميا، بناتج قيمته 646 مليار دولار (2.4 تريليون ريال)، أن حجم العجز الذي تحقق يعتبر «إيجابياً» للمملكة، بينما لا تزال الحكومة مستمرة في مساعيها للخصخصة التي من شأنها أن تساعد في خفض عبء الإنفاق على التمويل الحكومي، إذ كانت أحدث الخطوات هي تحرير عروض المناقصات للمشروعات الجديدة ومشروعات التوسعة للمشروعات المعدلة في عدد من المطارات.
شفافية
د. إحسان أبو حليقة -الخبير الاقتصادي- أكد أن التراجع الكبير في الايرادات النفطية أدى إلى حدوث عجز في الميزانية العامة للدولة، مما دفع الحكومة لمراجعة عميقة وإعادة هيكلة للمالية العامة، لكن ذلك لم يكن بمعزل عن بعض المتغيرات، مما دعا إلى وجود طرح أوسع أشمل وأكثر مدى، وهذا الطرح جاء في صورة رؤية المملكة 2030، مع مجموعة من البرامج التنفيذية والتي وصل عددها إلى 12 برنامجاً، تمثل الأعمدة الأساسية لانتقال الاقتصاد السعودي إلى مرحلة ما بعد النفط.
وقال: من هذه البرامج كان ما يهتم بالمالية العامة، وتحديداً برنامج تحقيق التوازن المالي 2020، والذي يسعى أن تكون الميزانية في ذلك التاريخ خالية من العجر، وقد جاء هذا البرنامج بمجموعة من العناصر التي تؤدي إلى التوزان المنشود، وبعض من تلك العناصر لتوسيع قاعدة إيرادات الخزانة العامة، ومنها عناصر للتخفيف من وطء الإجراءات المتخذة لتعزيز الإيرادات، كحساب المواطن مثلاً، وكذلك برنامج تحفيز القطاع الخاص.
وأضاف: سعت الحكومة كذلك بناء على توجيه مبكر من قبل خادم الحرمين الشريفين إلى السعي لرفع كفاءة الانفاق الحكومي، وتجسد ذلك في برنامج التحول الوطني، والذي يمثل برنامج لإعادة هيكلة دور الحكومة اجمالاً في الاقتصاد، والخدمات التي تقدم، والا تقوم الأجهزة الحكومية بتقديم خدمات يستطيع القطاع الخاص القيام بها، وكذلك مبادرات الخصخصة.
وشدد د. إحسان أبوحليقة على أن الحكومة اتخذت عدداً من الإجراءات التي اعتبرت محورية والتي خففت من تبعات تراجع أسعار النفط، وكذلك عمل مؤسسي يقوم على إنشاء مراكز متخصصة للمتابعة وقياس مؤشرات الأداء، ونشر تقارير حيال ذلك بشفافية تامة، سواء كان أداء البرامج ومسيرتها، أو ما يتعلق بالرؤية وتفاصيلها، وفيما يتعلق بالشفافية، فإن هناك تقريراً ربع سنوي تصدره وزارة المالية يبين إيرادات ومصروفات الخزانة العامة ببنودها المختلفة بشفافية تامة.
وقال: إن الإرادة السعودية الجامحة إلى تنويع مصادر الدخل قد بدأت تظهر بشكل واضح، وعلى سبيل المثال لا الحصر، المشاريع التي تطلق تباعاً من قبل صندوق الاستثمارات العامة في قطاعات مختلفة؛ السفر والسياحة والترفيه، كما ان الاهتمام بصورة أعمق بالمدن الاقتصادية، كمدينة جيزان وجلب مستثمرين من الصين في هذه المدينة.