قال إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ د.سعود الشريم، إن النعم لا تدوم، وإن صروف الحياة بين فتح وإغلاق، وسعة وضيق، وكدر وصفو، وحلو ومر، وإن دوام الحال من المحال، ناهيكم بعد ذلكم كله عن غياب مفهوم الرزق والاسترزاق، وأن الله الرزاقَ ذا القوة المتين هو من أمر بالسعي والاكتساب، وبذل الأسباب للتوازن الاقتصادي والمعيشي، ومنها سبب الادخار والتوفير للمستقبل.. إنه الادخار بمفهومه الجلي، الذي هو الجزء المستبقى من دخل المرء بعد حسم إنفاقه الاستهلاكي الخاص والعام، الادخار مبدأ عظيم وسلوك اقتصادي بالغ الأهمية لاستقرار الفرد والمجتمع معيشياً واقتصادياً؛ لأن تغيرات الحياة لا مناص منها، فتلك هي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، لذا كان الحذر والحِيطة من الأسباب التي حضت عليها شريعتنا الغراء لئلا يقع المرء في ضائقة تلجئه إلى السؤال والاستجداء المذمومين، أو ارتكاب كبائر محرمة كالسرقة والربا، أو الالتحاف بهم الليل وذل النهار الناتجين عن الدين الآسر.

وقال في خطبة الجمعة أمس: إن الادخار يجمع عنصرين رئيسين أحدهما القناعة الفكرية به، والآخر السلوك الاستهلاكي للادخار، والقناعة الفكرية إنما تستقر في الذهن من خلال فهم النصوص الشرعية في أهمية الادخار ومشروعيته، والحاجة إليه في الواقع الاقتصادي، فإن معيشة الإنسان مرتهنة بمدى إحسانه التوازن الإنفاقي له ولأهله، وأما السلوك الاستهلاكي فإنه قطب رحى نجاح الادخار متى ما استحضر المرء حسن التفريق بين ضرورياته وحاجياته وتحسيناته، مخضعاً ذلكم كله لأحكام الدين الخمسة ومدى انطباقها على صورة إنفاقه وادخاره، والأحكام الخمسة هي الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والمباح.

وأوضح “إن استحضر المرء ذلكم كله وأحسن إنزاله في واقع أمره، قامت قدر حياته الاقتصادية على ثلاث تكمن في الاستهلاك الشخصي، وحسن التوزيع للغير، والادخار للمستقبل. وقد جُمعت هذه كلها في قول الله جل شأنه: “كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين”، ففي قوله “كلوا من ثمره” متعلق بجانب الاستهلاك الشخصي، وفي قوله: “وآتوا حقه يوم حصاده” متعلق بجانب التوزيع للغير، وفي قوله “ولا تسرفوا” متعلق بجانب الادخار للمستقبل، فما ظنكم بمجتمع يعي أفراده هذه المنظومة المتكاملة؟ أترونه يفتقر؟، أترونه يضطرب؟، أترونه يقع في كماشة المسغبة أو شرك المتربة، كلاّ فإن من زرع الأسباب الشرعية قطف ثمرة الاستقرار والتوازن، ولم يك مفرِّطا قط، ولا مفرِطا؛ لأن الاستهلاك بقدر الحاجة، ودعمَ المعوزين، والادخارَ الاحتياطي، ذلكم كله هو مثلث التوازن الاقتصادي للفرد والمجتمع، وقد جمعه النبي في قوله: “كلوا، وأطعموا، وادَّخِروا”.

وأشار إلى أن سوء الموازنة وعدم إحكامِ التوزيع المالي في الضرورات والحاجيات والتحسينيّات سبب مباشر بلا ريب في تراكم ديون الفرد، مؤكداً أن الادخار الذي شرعه الله لنا وشرعه رسوله علامة ضبط وتوازن في الفرد والمجتمع، وهو نهج شريف بشرف انتسابه إلى شريعة الإسلام، والإسلام دين يسر وسماحة وليس دين عسر وغضاضة، هو شريعة الاقتصاد العادل الذي لا يورث ضرراً ولا ضراراً.