للمرة الأولى تعلن وزارة المالية الموازنة القادمة 2019 قبل بداية السنة بثلاثة أشهر، وهي بذلك تؤسس لحقبة جديدة تتميز بالوضوح والشفافية وإعطاء الجهات الحكومية والقطاع الخاص الوقت الكافي لرسم سياساتها المالية، وكذلك اطلاع المواطنين والمستثمرين والمحللين على توجهات واستراتيجية المالية العامة وأهدافها في المدى المتوسط وأولويات السياسات المالية للأعوام القادمة، وكذلك تحقيق أهداف الحكومة لتحسين كفاءة الإنفاق وتحقيق متطلبات النمو والتنمية الاقتصادية والاستدامة المالية ووضع إطار مالي عام على المدى المتوسط لتحسين عملية إدارة المخاطر، وهذا يساهم في تحقيق التحول من المحاسبة على الأساس النقدي إلى المحاسبة على أساس الاستحقاق وفق معايير المحاسبة الدولية وإحصاءات مالیة الحكومة والتي يطالب بها صندوق النقد الدولي، وهذا من شأنه خلق بيئة جاذبة للاستثمار الأجنبي وخصوصاً بأننا مقبلون على استحقاقات مهمة للاقتصاد السعودي منها: انضمام السوق المالية للمؤشرات العالمية للأسواق الناشئة، وكذلك الاستثمارات الأجنبية المتوقع تدفقها في المشروعات العملاقة مثل مدينة نيوم والبحر الأحمر والقدية ومشروع أمالا بالإضافة إلى مشروعات الطاقة الشمسية الأضخم في العالم ومشروعات التعدين والبتروكيميائيات والتكرير وغيرها من المشروعات التي تخطط لها الحكومة، وكل ذلك لن يتحقق إلا بتعزيز الشفافية وتطوير الأنظمة والقوانين التي تتوافق مع أفضل الممارسات العالمية ووضوح الرؤية والاستقرار المالي ومحاربة كل أشكال الفساد والبيروقراطية التي من شأنها تقويض جهود الحكومة في جذب الاستثمار الأجنبي.

ارتفاع أسعار النفط هذا العام عزز من قدرة الحكومة على رفع معدلات الإنفاق التدريجي، للمساعدة على تعزيز النمو وتحفيز الاقتصاد، وقد تم رفع الإنفاق للعام الحالي بنسبة 5 % عن المقدر في الميزانية على أثر الزيادة المتوقعة في الإيرادات والتي تقدر بحوالي 13 % حسب توقعات وزارة المالية، ولكن هذه النسبة قد تكون متحفظة وربما تصل نسبة النمو في الإيرادات الفعلية مع نهاية العام الحالي إلى حوالي 17 % مع سريان العقوبات الأميركية ووقف تصدير النفط في شهر نوفمبر من إيران وقيام السعودية بتغطية العجز في الإمدادات والتي سوف تزيد الإيرادات النفطية، العام الماضي لم يكن جيداً من حيث النمو، حيث قررت الحكومة إعادة ترتيب الأوراق في ما يخص الإنفاق العام، نتطلع بحول الله إلى السنوات القادمة والآمال معقودة على تحقق الأرقام المقدرة في الموازنات المستقبلية والوصول إلى التوازن المالي مع حلول العام 2023 وتحفير القطاع الخاص من خلال المبادرات الجديدة وعمليات التخصيص وتخفيف الأعباء على الحكومة بخصخصة بعض القطاعات العامة وحلحلة مشكلة البطالة التي حققت أرقاماً غير مرضية في ظل اقتصاد هو الأكبر على مستوى الشرق الأوسط ولعل الـ 68 مبادرة التي أطلقتها وزارة العمل قبل أيام تساهم في حل جذري لهذا الملف الشائك، وقد أشار سمو ولي العهد في مقابلته مع بلومبيرغ بأن التحسن في معدلات البطالة سوف يظهر بداية من العام القادم وصولاً إلى الهدف 7 % في العام 2030، كما أشار بأنه لن يكون هنالك أي ضرائب إضافية حتى 2030 وهذا يعطي ارتياحاً للقطاع الخاص ومساعدته على النمو المطلوب وخلق مزيد من الوظائف للمواطنين.

توقعت وزارة المالية أن يحقق الناتـج المحلـي الحقيقـي نمواً بمقـدار 2.3 % فـي العـام 2019م، وتتوقـع أن يسـتمر نمـو الناتـج المحلـي الحقيقـي فـي التحسـن تدريجيـاً ليصـل إلـى 2.4 % فـي العـام 2021م بالتزامـن مـع تحقيـق أهداف برامج التحول الوطني، ولكن هذه التقديرات لنسب النمو أرى أنها متحفظة جداً وأتوقع أن تكون أعلى بكثير مما قُدر في المالية العامة إذا لم يكن هنالك أي تغيرات غير متوقعة مثل الانخفاض الحاد في أسعار النفط أو ارتفاع معدلات الدين العام وتكلفته في ظل ارتفاع أسعار الفائدة.

يعتبر مؤشر التضخم من أهم مؤشرات الوضع الاقتصادي والمؤثرة به، والتضخم مؤشر تكمن خلفه حقائق قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية، وبالتالي فإنه يمكن الحد من التضخم باتخاذ السياسات المالية والنقدية من قبل مؤسسة النقد لضبط مستويات التضخم وبالتأكيد مثل هذه الإجراءات تحتاج إلى وجود احتياطيات نقدية كافية وهي بفضل الله موجودة وكافية لعدة سنوات، النمو السلبي للتضخم ليس في صالح الاقتصاد فهو يعبر عن وجود انكماش في الاقتصاد ولكن معدلات النمو بنسب بسيطة هي ما يحتاجه الاقتصاد وتوقعت وزارة المالية أن ينمو التضخم مع نهاية العام الحالي إلى حوالي 2.8 % وصولاً إلى معدل 2.1 % في العام 2021 وهذه النسب ليست عالية ولا تؤثر سلباً على الاقتصاد ولا حتى تثقل كاهل المستهلك بل إنها مناسبة جداً للاقتصاد وتحفيز النمو المطلوب.