[caption id="attachment_887" align="aligncenter" width="100"] الشيخ عطالله العتيبي[/caption]
من أسماء ربنا جل وعلا اسم ( الحكيم ) , فهو سبحانه حكيم فيما يقدره , وفيما يأمر به , وينهى عنه , فلا يقضي ربنا قضاء كونيا كان أو شرعيا إلا لحكمة , وتلك الحكمة قد يُطلع الله عليها خلقه وينبههم لها , وقد لا يُطلع عليها أحدا منهم , وقد يطلع عليها بعضا دون بعض .
وفي كل الأحوال فالواجب على العبد أن يسلم لربه وموالاه ما قضاه من الأوامر الشرعية والقدرية وإن جهل حكمتها , كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) الأحزاب / 36 .
وإن من أوامر الله التي أظهر الله شيئاً من حكمها لعباده : الصوم , فإن للصوم فوائد متعددة ومتنوعة , فله فوائد ظاهرة وباطنة وفوائد فردية واجتماعية , وفوائد الصوم مشهودة بالعقول السليمة ، والفطرة المستقيمة ، ومن تلك الفوائد ما يلي :
1- تقوى الله تعالى , قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة/183 , وختم الله عز وجل آيات الصيام أيضا بذكر التقوى , فقال تعالى : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) البقرة / 187 .
2- كسر النفس , فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة .
3- ومنها : تخلي القلب للفكر والذكر ، فإن تناول هذه الشهوات تقسي القلب وتعميه , وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر , وتستدعي الغفلة , وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب ، ويوجب رقته ، ويزيل قسوته ، ويخليه للذكر والفكر .
4- ومنها : أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم , فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم , فتسكن بالصيام وساوس الشيطان , وتنكسر سورة الشهوة والغضب , ولهذا جعل النبي صلى الله عليم وسلم الصوم وجاء , لقطعه عن شهوة النكاح .
5- ومن فوائد الصوم : تقوية الإرادة ، فالذي يصبر على آلام الجوع والعطش ، ويكبح نفسه عن العلاقات الجنسية في وقت الصيام ، يحصل له من جراء ذلك قوة في الإرادة تجعله مالكاً لزمام نفسه لا أسيراً لميوله المادية وشهواته الضارة .
6- ومن فوائده أيضا : إضعاف سلطان العادة ، فقد بلغ ببعض الأفراد سلطان العادة إلى حد كبير ، فلو تأخر عنهم الطعام عن موعده فأصابهم الجوع لساءت أخلاقهم ، وقد يكون سلطان المؤثرات من القهوة والشاي والتدخين أشد من سلطان الطعام على أهله ، فهؤلاء يعتبرون أسرى لعاداتهم ، والصوم يربي الإنسان على التغلب على عاداته السيئة .
7- ومنها : أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه حيث أقدره له على ما منعه عن كثير من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح , فإنه بامتناعه عن ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقة له بذلك , يتذكر به من مُنع ذلك على الإطلاق , فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى , ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك .
8- ومن حكم الصوم : المساواة بين الأغنياء والفقراء ، فهذا الصوم فقر إجباري يفرضه الإسلام على المسلمين كافة ليتساوى الجميع في بواطنهم ، إنه فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية أن المساواة الصحيحة حين يتساوى الناس في الشعور ، لا حين يختلفون ، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بالرغبات المتعددة .
9- ومن فوائد صيام رمضان , أن فيه إظهارا لعبادة الله عز وجل في المجتمع بأجمعه , فتجد جميع المسلمين من الشرق إلى الغرب يجتمعون على صيام هذا الشهر , حتى الأشخاص الذين تحصل منهم بعض المخالفات الأخرى , إذا أتى رمضان شاركوا إخوانهم المسلمين على صيام رمضان , فلا تجد بينهم مفطرا , حتى إن العاصي الذي لا يصوم _ والعياذ بالله _ لا يستطيع أن يجاهر بفطره , بل حتى الكافر لا يستطيع أن يظهر فطره أمام المسلمين , ولا شك أن في هذه الظاهرة فوائد عدة , منها : إظهار عبادة الله عز وجل مع أن الصوم عبادة سرية , ومنها : أن في ذلك الجو الإيماني فرصة عظيمة لمن أراد أن يتوب إلى الله عز وجل وينيب إليه وكم من الناس كانت نقطة إنطلاقهم في طريق الهداية هذا الشهر العظيم , ومنها : استشعار العاصي والكافر للذلة والصغار مما ينفره عن الحال التي هو عليها , ومنها : تيسير هذه العبادة على المسلمين , فكون المجتمع كله صائم هذا مما ييسر على العبد هذه العبادة العظيمة الجليلة .
10- من فوائد الصيام تربية النفس على الأمانة ، "فإن الذي يكون قويا أمينا في حفظ أمانة الله ورعاية أوامره يكون قويا في عمله , أمينا على ما استرعاه غيره من عمل , ومن خان أمانة الله العظمى في شرائع دينه فهو لغيرها أشد خيانة , ومن تدرب على قوة الإرادة وصدق العزيمة شهرا كاملا عن إيمان واحتساب , فإنه يكون قوي الشكيمة , شديد المراس , صلب في التصميم " "صفوة الآثار" للدوسري (3/101) .
ومن عجائب ما يذكر أن بعض الكفار كان يمتحن العمال المسلمين ، وذلك بتخيرهم بين الصيام وبين خيانة الله فيه , فيغرونهم بمضاعفة الأجور للمفطرين , حتى إذا انتهى الشهر عكسوا الأمر , فضاعفوا أجور الصائمين , ونقصوا المفطرين أو طردوهم , مع التصريح لهم أنهم خونة قد خانوا دينهم ! "صفوة الآثار" للدوسري (3/101)
11- وللصوم فوائد طبية متعددة ، فهو يقي بإذن الله تعالى من كثير من الأمراض , يقول أحد الباحثين وهو د . مصطفى الحفار : البحث العلمي الحديث أكد على منافع الصوم ففي فرنسا مراكز مخصصة لدراسة أمراض التغذية والعلاج لها ، وقد تبنت لمرضاها الصيام الكامل الدوري ، وسمته ( العلاج الرمضاني ) بعد ما تأكد لها جدوى هذه الطريقة من الصيام وفوائدها على أعضاء الجسم كلها ، ونذكر أمثلة على ذلك :
القلب : ينتظم خفقانه وينعم بفترة راحة من الناحية الوظائفية المرهقة الناجمة عن عملية الهضم .
الدم : تنتفي منه الزوائد من الشحوم والدهون والحموضات .
الكبد : هذا المعمل الكبير المتعدد الخصائص يقوم بوظائف دونما إجهاد ، فيصنع للجسم المواد الحيوية دونما إرهاق بوجود المعوقات الهضمية وسمومها .
المعدة : إن الصوم لبضعة أيام متوالية يدفع بالغدد الهضمية لأن تقلل من إفرازاتها ، وهذا مما يحميها وأغشيتها من زيادة الإفرازات التي هي من أهم أسباب التقرح في المستقبل .
والصوم يحمي الإنسان من البدانة ، ومرض السكري ، والروماتيزم الناجم عن ترسيب الأملاح البولية في الأنسجة والمفاصل ، والحصى الكلوية ، وحصى المرارة الدهنية والكلسية وارتفاع الضغط الشرياني ومضاعفاته على الرأس والدماغ والعين والقلب والكلى "روح الدين الإسلامي" لعفيف طبارة (490_491) .
ولما كان بعض المرضى يشق عليهم الصيام , فقد أباح لهم الله عز وجل الفطر , وكذلك الحال بالنسبة للمسافر , قال تعالى : ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) البقرة / 184 .
وقد لاحظ الشرع في الصيام التيسير وعدم المشقة , ولهذا كان الأمر في أول الإسلام أن الصائم إذا نام قبل أن يفطر , فإنه يتم صيامه إلى آخر اليوم التالي ولا يفطر , ثم نسخ الله عز وجل ذلك رحمة بعباده , كما ثبت في "صحيح البخاري" (1915) من حديث البراء بن عازب , قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار , فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي , وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما , فلما حضر الإفطار أتى امرأته , فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت : لا , ولكن أنطلق فأطلب لك . وكان يومه يعمل , فغلبته عيناه , فجاءته امرأته , فلما رأته قالت : خيبه لك , فلما انتصف النهار غشي عليه , فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , فنزلت هذه الآية : ( ُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) البقرة / 187 ، ففرحوا فرحا شديدا , فنزلت : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) البقرة / 187 .
فالحمد لله على نعمة الإسلام , ونسأله عز وجل أن يديم علينا هذه النعمة , وأن يرزقنا شكرها , وأن يحسن لنا الختام , والله تعالى أعلم وأحكم , وصلى الله على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه وسلم .
التعليقات 1
1 pings
مصلح العمري
06/19/2015 في 6:35 م[3] رابط التعليق
الله يجزاه خير