لاشك ان ما سمعنا عنه وما شهدناه خلال سنوات حياتنا ماهو إلا نتيجة لإحداث جسام مرت على البشرية واحدثت فيها الكثير من التغيرات في الطبيعة الديموغرافية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والذي بدوره رسم خريطة الحياة للمجتمعات على مدى حقب طويلة من الزمن .
هذه الأحداث اختلفت من ناحية شدتها او بساطتها او بوصفها طبيعتها ككونها كوارث طبيعية ومجاعات او كوارث ناتجة عن حروب ونزاعات الا انها تركت اثراً واضحاً في التكوين الاجتماعي ، ومنذ القدم كانت الكوارث هي من غيّر مجرى تاريخ الخليقة فكارثة الأكسجين الكبرى التي يُعزى لها وجود البشر و المخلوقات على الأرض هي التي هيأت هذا الكوكب ليكون صالحاً للعيش والتي بسببها جاء البشر والكثير من المخلوقات المعاصرة إلى الوجود ( رغم تحفظي الشرعي على هذه النظرية إلا أنها تبقى من النظريات العلمية الموجودة ) أعقب ذلك كارثة أنقراض الديناصورات الذي أتاح مكانا للثدييات الصغيرة للعيش وما صاحبه من تغير في طبيعة التفاعل الاجتماعي لهذه المخلوقات .
لن اطيل في سرد مثل هذه الأحداث التي قد يصعب تخيلها بحكم بعدها التاريخي إلا إن الكوارث والازمات والثورات كالثورة الصناعية والحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الكورية وحروب الاستقلال في الوطن العربي والحرب العراقية الإيرانية والحرب الافغانية وحربي الخليج الأخيرتين والمجاعات في أفريقيا والسودان وباكستان والهند والتسونامي الآسيوي وظهور الاوبئة الجديدة والطارئة كالايبولا والسارس وحميات الوادي المتصدع والخنازير والطيور واخيراً كورونا بشقيها القديم والجديد .
كل هذه الكوارث والآفات خلفت ورائها عشرات الملايين من القتلى والمصابين مما احدث تغيراً اجتماعياً جديداً غير مألوف بالنسبة للأفراد والمجتمعات والاجيال التي عاصرت هذه الأحداث اوبعضها .
اننا اليوم بصدد الحديث عن الكارثة الصحية الجديدة كورونا ١٩ والتي اجتاحت العالم بأسره ولم يسلم منها مجتمع من المجتمعات البشرية ففي أقل من بضعة أشهر انكشفت سوءة هيئات ومنظمات كانت رائدة العالم في مجال الصحة والعناية بالإنسان وظهر في مقابلها جهود منظمات وهيئات اخرى وصفت بانها من دول العالم الثالث الا إنها اثبتت نجاحها و تفوقها في ادارة أزمة هذه الكارثة .
كورونا المستجد رغم أن ضحاياه من البشر حتى الان ليست بعدد ضحايا الحروب والمجاعات التي اشرت اليها سابقاً إلا أن تأثيره النفسي والاجتماعي أشد وأنكى فقد القى بظلاله على المجتمعات واحدث فيها صدمة واضطراب و ارجع بعضها إلى الجذور والبحث عن الحقيقة حتى اننا رأينا مشاهد لا تصدق فمدن فقدت سماع الآذان منذ مئات السنين صارت شرفات منازلها تصدح بحيا على الصلاة هذا المثال غيض من فيض لكثير من الأمثلة على التحول الذي أحدثته كارثة كورونا . اشرتُ سابقاً الى ذكر بعض الأزمات التي حدثت وكان لها نتائج كبيرة في التغير الاجتماعي عند الشعوب التي عايشتها وتأثرت منها فمثلاً حرب الخليج الأولى لم تلقِ بظلالها وتبعاتها على شعوب ومجتمعات المنطقة فحسب بل تعدت ذلك إلى جميع الدول التي شاركت فيها وافقدت شعوبها الكثير من قيمها واعتبرها المنظرون نقطة مفصلية في التحول والتغير الاجتماعي فهنري كيسنجر في إجابة على أحد الأسئلة المتعلقة بالمجتمع الأمريكي قال لابد من العودة إلى قيم الستينات التي دمرتها الحروب الأمريكية .
وفي محيطنا العربي والخليحي لمسنا وعايشنا تغيراً اجتماعياً غير مسبوق وبوتيرة متسارعة عقب حربي الخليج الأولى والثانية .
لنتخطى جميع ما سبق فالقارئ الكريم على علم وإدراك بجميع التغيرات التي طرأت على المجتمع خلال تلك الفترة جراء تلك الأزمات ودعونا نراقب ونسجل التغير الحاصل نتيجة كارثة كورونا الحالية والتي دخل المجتمع في معمعتها منذ ما يقارب الشهر وبالتوازي مع ما تقوم به الدولة والجهات الرسمية من إجراءات احترازيةهدفها احتواء الكارثة وتخفيف وطأتها وتجنيب المواطنين والمقيمين الإصابة بالفيروس وارشادهم للطرق السليمة للتعامل مع الوضع من خلال التقيد بسلوكيات صحية واجتماعية صحيحة لوحظ ظهور سلوكيات إيجابية كثيرة كانت تُعقد لها الدورات والندوات واللقاءات لايصالها للناس من أجل التقيد بها الا انها غالباً تكون بلا جدوى بسبب عدم التقيد بها ويُنظر لها بأنها أمور يصعب تقبلها و تطبيقها والتماشي معها لكن في أجواء الكارثة وجدنا معارضيها بالأمس هم اول من طبقها اليوم ويروج لها .
على سبيل المثال لا الحصر كان رب الاسرة يفقد السيطرة على الزام ابنه المراهق في البقاء بالمنزل في ساعات محددة ، تجد المتنزهات تكتظ بالمتنزهين من ساعات المساء الأولى وحتى الفجر أو بعده ، وحركة السيارات لا تتوقف ، وزحمة الاسواق والتسوق من غير حاجة ، وغيرها الكثير والكثير من الممارسات التي أصبحت جزء من الحراك الاجتماعي المألوف ناهيك عن التصرفات السلبية المصاحبة لهذة الممارسات المقلقة للأسر والجهات الرسمية بجميع اشكالها سواء كانت أمنية أو خدمية ، المراقب للوضع قبل الكارثة واثنائها يلاحظ الفرق الكبير والواضح في التقيد والانضباط .
الدروس المستفادة من هذه الكارثة تتجلى في ان الدولة ليست بالعاجزة عن تطبيق النظام وتوجيه الناس لما فيه مصلحتهم كذلك ان الناس ان لم يشعروا بالحزم والجدية في تطبيق الأنظمة فلن يطبقوها وسوف تبقى حبراً على ورق مالم يلزم بها الافراد والجماعات ، الناس يعرفون الامور التي تُصلح حياتهم ولكنهم يتبعون الاغلبية في تصرفاتهم فهم يتابعون من يملأ أوقات فراغهم بالتفاهات والجزئيات غير المهمة واحتفظوا بالموجهين الثقات ( علماء الدين والعلوم المختلفة ، الاطباء ، اصحاب الاختصاص ، الدعاة ، والاعلاميين المميزين ، المفكرين الاكفاء ) على الرف ولكن عند الحاجة وفي لحظة الحقيقة وفي عز الكارثة رموا التافهين ولزموا الثقات لأنهم يعرفون بانهم طوق النجاة .
من المؤكد انه بعد انجلاء الكارثة والعودة للحياة الطبيعة وعلى غرار الكوارث التي اشرت اليها في بداية المقال سيكون هناك تغيراً اجتماعياً كبيراً في أمور اجتماعية كثيرة وستتبدل ممارسات كثيرة بممارسات بديلة وستتغير قناعات وتحل محلها اخرى وستنجلي التكهنات عن حقيقة كورونا وسوف نستعد لاستقبال حدث جديد متسلحين بنجاح تجربة المواجهة والانتصار .
الا ان السؤال الكبير والذي لابد أن ندرك اجابته ...
هل هيأنا أنفسنا للتعايش مع التغير الاجتماعي القادم ؟
بقلم / خالد مناحي المطيري
مدير إدارة العلاقات العامة بجامعة حفرالباطن
التعليقات 3
3 pings
ابو محمد
03/28/2020 في 6:10 ص[3] رابط التعليق
سلمت أناملك على هذه السطور الجميلة لا فض فوك ولا انطوى لك منبر..
تعليق بسيط على اتباع السمين من الاطباء والعلماء والاكفاء وغيرهم وترك وهجر التافهين والتافهات الذين لا يحملون اي محتوى يحتاج لوقت أطول لهجرهم من قبل أكثر الشعوب ويعرفون قيم ما ذكرت الاولون.
المهم انه مقال مميز حقا
زائر
03/28/2020 في 10:08 ص[3] رابط التعليق
مقال جدا شامل وملخص لهذه الفترة الحرجة
زائر
03/28/2020 في 11:06 ص[3] رابط التعليق
مقال جميل ينم عن ادراك عميق لما يحدث
ارجو لك التوفيق